Thursday, June 5, 2008

براءة خلف القضبان

لا يختلف إثنان على اعتبار ان الحدث هو ضحية الدولة وليس مجرماً، وعليها أن ترعاه ولا تربي فيه الحقد والنميمة، ولكن لا يوجد في المقابل أحد من المسؤولين على مرّ العهود والحكومات المتعاقبة يؤمن بذلك، ويعترف أن مكان الأحداث ليس سجن رومية، بل في مراكز متخصصة...!
كذلك لا يختلف إثنان على ضرورة إطلاع المواطنين على الاسباب الاساسية التي تعرّض الاطفال للخطر والتشرد و الانحراف، وعلى الواقع الاجتماعي الذي يهدّد مستقبل أجيال بأكملها. ولكن في المقابل لم يتجرأ أحد من المسؤولين على الاعتراف أمام اللبنانيين بتقصير السلطة في تقديم الدعم المالي لجمعيات الرعاية مع العلم أنها تهدف الى إفراغ السجون في الاصلاحية، وإفراغ الاصلاحية في المجتمع...!


صبرا والكسليك خلف أسوار رومية

تدخل مبنى الأحداث في سجن رومية حيث يعيش أطفال ومراهقون خلف أسوار من الحديد والاسمنت، حديد على النوافد، باب حديدي للغرفة، باب حديدي للجناح، نافذة المدخل مشبوكة بالحديد، باب الطبقة حديدي مقفل، الدرج المؤدي إلى السطح مسوّر بالحديد، السلالم كذلك. حديد أينما نظرت ومشيت.
يطلّ "جناح الكسليك" في قسم الأحداث على البحر، ليس مطلاًّ بالمعنى الصحيح للكلمة، لكن يلوح في الأفق، خلف مبنى المحكومين الكبار، طرف البحر. أما "جناح صبرا"، فنافذته ملاصقة لحائط اسمنتي شاهق بلون باهت، لا يسمح إلا برؤية السماء، جزئياً. هكذا، وفقاً للموقع الجغرافي، يستخدم نزلاء قسم الاحداث تعبيري "الكسليك وصبرا" لوصف جناحي الطبقة الثالثة من مبنى الأحداث، حيث يعيشون. فـ"جناح الكسليك" مخصّص لحديثي التوقيف، ولذوي السيرة الحسنة من المحكومين بفترات قصيرة. أما "جناح صبرا"، فيقطنه المحكومون بفترات طويلة، والموقوفون الذين يدخلون السجن للمرة الثانية أو أكثر. لا يتميز الجناحان بعضهما عن بعض سوى بساعتين إضافيتين تفتح فيهما أبواب الغرف والجناح، ففي صبرا، يبقى الباب الرئيسي مقفلاً طوال النهار، ولا يخرج السجناء إلا إلى المشاغل والمصانع أو مقابلات الزوار، بإذن من العسكري المناوب. وإقفال أبواب الغرف يتم عند الثالثة بعد الظهر. اما "جناح الكسليك"، فيبقى بابه الرئيسي مفتوحاً مع أبواب الغرف حتى الخامسة.في الكسليك 5 غرف وفي صبرا 7، مساحة كل منها تزيد على 24 متراً مربعاً، ويقطنها نحو 10 أشخاص، لكل منهم سرير خاص به. في كل غرفة "شاويش" من بينهم، تعيّنه إدارة السجن حسب أقدميته وحسن سلوكه، للسهر على تنفيذ التعليمات الصادرة عنها، وأولها النظافة. وفي هذا المجال، يقوم أحد السجناء كل يوم "بتزييح" الغرفة (حسب التعبير المستخدم بين النزلاء)، أي مسح أرضها بالماء ومواد التنظيف والتعقيم. تزود إدارة السجن النزلاء وجبتي طعام يومياً، لكن أكثرهم يتناولون طعاماً أحضره ذووهم. فـ"الأرَوَانة" (أي طعام السجن) "ما بتتاكل، وما في متل أكل البيت"، يقول أحدهم. وداخل كل غرفة حمّام بلا باب، فقد أبدلت الأبواب بستائر قماشية."شاويش الطابق" هو من المحكومين الكبار، وتعينه إدارة السجن، يساعد الإدارة في تطبيق النظام. لكن الكلمة العليا هي لحارس الطبقة من قوى الأمن الداخلي، والذي يطلق عليه السجناء لقب "باش شاويش". يملك هذا الأخير مفتاح جناحي الطبقة، وهو الذي يسمح للسجناء بالخروج من الجناح أو من الطبقة لمقابلة الزوار، أو للتوجه إلى المشاغل الموجودة في الطبقة الثانية من مبنى الأحداث. والمؤسف في هذا المبنى، أن الادارة تستعين بمحكومين دانهم القضاء لارتكابهم جرائم يعاقب عليها القانون، وذلك لمعاونتها في إدارة شؤون المحكومين، او لمساعدة من يدربون الأحداث في المشاغل والمصانع، مع العلم أن المادة الثانية من القانون رقم 422 الصادر عام 2002 (حماية الأحداث المخالفين أو المعرضين للخطر)، تمنع حجز الأحداث مع الراشدين، فكيف الحال بطلب المساعدة من أحد الراشدين المدانين، لتدريب الأحداث أو إدارة شؤونهم، بدلاً من مختصين ذوي خبرة؟

إصلاحيون بحاجة الى إصلاح

يتغير عدد السجناء الأحداث في رومية باستمرار (بين 100 و120) لأن السجن يضم محكومين وموقوفين، وحركة الدخول والخروج للفئة الأخيرة كثيفة جداً، إما بسبب الإفراج، أو بسبب تأكيد البراءة او لترحيل الأجانب منهم خارج البلاد، وإما لنقلهم إلى معهد الإصلاح.
يبدأ نهار السجناء الثامنة صباحاً حين يستيقظون. ينتقل بعدها الشباب إلى مشاغلهم ومصانعهم والصفوف، وذلك حسب جدول معدّ سلفاً، حتى الواحدة بعد الظهر تقريباً، حين يعودون إلى غرفهم، ويبقون فيها إلى اليوم التالي. تتبع المصانع لإدارة السجن، وهي تضم ميكانيك سيارات وحدادة وبويا وكهرباء سيارات و"البستان"، (خيمة بلاستيكية في زاوية إحدى الباحات تستخدم للأعمال الزراعية) كلها خارج مبنى الأحداث، بالاضافة إلى صف لتعليم تشغيل الكومبيوتر والتصميم في الطبقة الثانية من المبنى. وتؤمّن وزارة التربية الأساتذة والمدربين لهذه المصانع، كما أن وزارة العمل تمنح الاحداث شهادات بعد انتهائهم من الدورات التدريبية. وعلى نحو مواز لنشاطات إدارة السجن، ثمة مشاغل تشرف عليها "الحركة الاجتماعية" في الطبقة الثانية من مبنى الأحداث، وهي جمعية أهلية تدير برنامجاً لتأهيل الأحداث داخل السجن. يضم هذا البرنامج 4 مشاغل، تجميع الكومبيوتر وصيانته، وصناعة الحقائب الجلدية، وتطعيم الخشب، والحلاقة. ويضم أيضاً صفاً للرسم وآخر للمسرح، بالاضافة إلى التدريب الاجتماعي، والمتابعة النفسية للمسجونين. تدفع الحركة الاجتماعية أجور الأساتذة في المشاغل التي يساعدهم فيها محكومون كبار.
أما المكتبة فلها مكانة خاصة كونها تقتل الفراغ لدى الحدث وتنمي الانضباط لديه حيث يمضي وقته بعيداً عن الضجة. وتحتوي المكتبة على كتب باللغات العربية والفرنسية والانكليزية لكافة المستويات المدرسية، ونجد ألعاباً تثقيفية وأماكن مخصصة للقراءة واللعب. والباحة الخارجية مخصصة للنزهات وللألعاب الرياضية الالزامية لجميع الأحداث على حد سواء.
ورغم أن سجن الأحداث يعدّ أفضل من السجون الأخرى لناحية المساحة وأماكن نوم السجناء وبرامج التدريب، إلا أن هدف التدابير المتخذة بحق الأحداث هو الحماية والاصلاح بحسب ما ينص عليه القانون 422، وهو ما لا يبدو جلياً في سجن الاحداث في رومية، لأنه يبقى سجناً يشبه إلى حد بعيد السجون الأخرى في لبنان.

الفتى الذي أوى إلى سجن رومية


أراد سامي أن يتخلص من منزله حيث كان والده يربطه بالجنازير ويضربه مع أشقائه ويتحرش بابنته البكر، فارتأى أن الوسيلة الفضلى للابتعاد عن واقعه المرير هي السرقة وتسليم نفسه للدرك "وهيك بخلص من الحياة القاسية يللي كنت عم عيشها"
"من أول ما وعيت كنت شوف أمي وبيّي عم يتخانقوا"، فوالده كان يمضي نهاره في شرب الكحول والجلوس في المنزل، إذ هو لا يعمل معظم الأوقات، فيما أم سامي كانت تعمل في خدمة المنازل كي تتمكّن من إطعام أولادها. يقول سامي بصوت تملؤه غصّة: "كتير أيام أنا واخواتي بنّام جوعانين لأنو ما كان في شيء ناكلوا. واذا انوجد شي، كان الفول المطبوخ"، لان والده كان يطبخ الفول أحياناً ليبيعه.
يتابع سامي: "أكل الفول أمرضني وإخوتي، فكنّا ندخل الى مستشفيات تعيسة، حسب مقدرتنا المالية، وقال أطباء إننا مصابون بالتلاسيميا وآخرون قالوا سرطان الدم".يبلغ سامي حالياً 18 سنة، وهو لا يذكر من طفولته غير كوابيس مؤلمة رسمت في عقله قساوة الحياة وحرمته هناء الطفولة والذي أوصت به المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الطفل. وهو لا يعي منذ نضجه غير صورة الحي الضيق الذي كان يقطنه في صيدا، حيث تكوّن المياه الآسنة مَعلماً بارزاً ودائماً. وعاش طفولته متنقلاً من منزل بائس إلى آخر أشد بؤساً.الهرب إلى... السجنوالد سامي أرغمه لدى بلوغه العاشرة على ترك المدرسة كي يعمل للقيام بأعباء مسؤولية أشقائه، فعمل في بعض الورش من 7:00 صباحاً حتى 7:00 مساءً، ثم انتقل الى جمع الخردة والألمنيوم من مكبات النفايات لأنها مربحة أكثر. واقع مرير دفع سامي للهرب من المنزل والنوم على حافة الطريق وداخل هياكل السيارات المتكسرة، حيث تعرف إلى مجموعة من الفتية علموه التدخين وشرب الكحول وشم مادة التينر، إضافة الى تعاطي الحبوب المخدرة والسرقة حتى أوقفته القوى الأمنية ليصدر الحكم الأول بإدخاله معهد الإصلاح "حيث يجري تلقينه الدروس وتدريبه على المهن والإشراف على شؤونه الصحية والنفسية والاخلاقية" كما نصت المادة 13 من قانون حماية الاحداث المخالفين للقانون او المعرضين للخطر الصادر في حزيران 2002. علماً أن واقع الاصلاحية ليس مطابقاً لما ينص عليه القانون، فعدد الاساتذة لا يكفي ومصانع التدريب مقفلة نتيجة انعدام التمويل الرسمي، وهذا ما انعكس ايضاً على عدد الأحداث المقيمين في الاصلاحية ليبلغ 20 فرداً في حين ان المعهد معدّ ليتسع لـ 80 فرداً. هرب سامي من الاصلاحية ليعود الى حضن الشارع، لكن سرعان ما أوقفته القوى الأمنية وأودعته هذه المرة قسم الاحداث في سجن رومية لإنهاء محكوميته، حيث تعمل جمعيات غير حكومية على تأهيل المراهق نفسياً وتربوياً واجتماعياً. وبعد مضي فترة حكمه، خرج سامي الى الحرية، وعاد الى واقع عائلته ليستعيد ايقاع حياته الأليم، لذلك رأى أن أفضل ما يخلّصه من الحياة التي يعيشها هو أن " أسرق وأسلّم نفسي للدرك" وهذا ما حصل فأودع سجن الأحداث في رومية.
كلام سامي جاء في نبذة عن حياته قبل السجن وبعده أنتجتها مؤسسة الرعاية الاجتماعية التي تابعت حالته عن كثب. ولدى محاولتي البحث عن مكان سامي، علمت أنه ما زال موضوعاً في رومية .
ومع عودة سامي الى السجن، أسئلة عديدة تطرح حول فاعلية نظام الاصلاح، فرغم عمل جمعيات الرعاية على الصعيد النفسي للاحداث وعلى مشروع حياتهم الجديد في سبيل دمجهم بالمجتمع، فإن صعوبات تبقى قائمة في ظل غياب أشخاص أساسيين (المتخصصون) في فريق عمل الجمعيات، مما يجعل العمل الفردي مع كل حدث على حدة صعب. ومن العوائق الرئيسية كذلك، عدم وجود إمكانات لمتابعة الحدث خارج السجن على نحوٍ كافٍ، مما يشجّع الاحداث على معاودة مخالفاتهم للقانون.

No comments: