Thursday, June 5, 2008

علاج " الشذوذ" في السجون، حبوب وكوكايين في قوالب الكاتو

خلف قضبان السجون، هناك دوماً ظالم ومظلوم، هنالك دوما قاتل وقتيل ، هنالك دوما مجني ومجني عليه ، وهنالك دوما قصص مألوفة وقصص لا تشبه القصص، خلف قضبان السجون تسكن دوماً حقيقة محرم تداولها خاصة اذا كان القانون في لبنان لا يحميها كالمخدرات والمثلية الجنسية أو ما يعرف بالشذوذ الجنسي.لا اعرف لماذا توضع العراقيل في وجه من يريد معالجة مواضيع يقال أنها حساسة، ولا اعرف لماذا يطلب من الصحافي الذي ينوي إجراء تحقيق صحفي عن " المحرمات اللبنانية" ألف تعهد وتعهد والف مطلب ومطلب.
ولكن يبدوا عاجزا" أمام تلك التعهدات والمطالب وبذلك يكون للسادة المسؤولين داخل السجن الحق كل الحق في رفض طلبه، ثم ما الفائدة أصلاً من أن يعطي الصحافي تعهدات قانونية تجعل الحقائف ممزقة وبعيدة كل البعد عن الواقع القائم، ولمصلحة من تخرج الحقيقة معاقة الى الناس هل من مجيب؟

كل محاولاتي الجادة والصبورة لاستحصال حديث أو رأي السجناء دون رقابة او تحفظ بموضوع المخدرات والشذوذ الجنسي داخل السجن باءت بالفشل، لكن الموضوع كان يستحق تكرار المحاولات بطريقة أخرى، خاصة بعد ان اصبحت رائحة اخبار السجن العفنة في متناول الجميع. واخيرا اثمرت تلك المحاولات الى التحدث مع سجناء سابقين قرروا فتح هذا الملف دون ذكر اسماءهم.

تختلف وجوه هؤلاء الرجال عن تلك الوجوه التي رأيتها خلف القضبان الحديدية، فوجوه الرجال يملؤها الغضب والحسرة على المستقبل الذي اضاعوه " داخل هذه المقبرة"، بحسب قول أحدهم. فهم متعطشون للحديث رغم اختلاف نوع التعطش ،فهم معترفون، شاكون ومتورطون بهذه الممنوعات.
أولى محادثاتنا كانت مع (ج) الذي لفت الى تفشي ظاهرة "اللواط" بين عدد كبير من السجناء لاسباب عدة أبرزها التلفزيون، حيث كان بإمكان البعض التقاط محطات تبث مشاهد مثيرة. وتابع: " لا يمكن لوم أي سجين على شذوذه الجنسي كونه مُجبراً عليه داخل السجن نظراً لعدم وجود الجنس الاخر".
"فهـؤلاء السجناء ليسوا شاذين جنسياً وإنما اضطرتهم ظروفهم الصعبة في ذلك السجن المخيف، المعزول عن العالم إلى اللجوء إلى إيجاد مخرج لغزيزتهم الجنسية فكان هذا النظام الذي ساد في السجن من شذوذ جنسي، والمسؤولون عن السجن يسكتون عن هذا الموضوع مما يؤكد حاجة السجين الى هذا السلوك.ويشدد (ج) أنه بعد أن خرج هؤلاء من السجن عاشوا حياتهم العادية بعيداً عن الشذوذ الجنسي الذين كانوا مضطرين إليه".
المخدّرات متوافرة خلف القضبان أيضاً
رغم ملامح الهدوء التي ترسم على وجهه إلا أن (م) لم يبدُ منزعجاً من دخوله السجن بتهمة تعاطي المخدرات، بل كان ناقماً على نظام إصلاحي "زج به في السجن لأنه أخطأ، لكن من يحميه من الانحراف وراء القضبان؟".
وكانت قد انتشرت معلومات كثيرة عن عمليات تهريب زوجات المساجين للمخدرات من حبوب وكوكايين إلى داخل السجون، داخل قوالب "الكاتو" والحمص المتبل وأصناف طعام أخرى، بعد جعلها جزءاً من "الطبخة"!. " اسهل شيء هو الحصول على المخدرات داخل السجن"، قال (م) واكمل:
"تعاطيت المخدرات للمرة الأولى وأنا بعمر 14 عاماً"، وقبض علي في سن 20 عاماً بسبب تعاطي الحشيشة، ويتابع متأثراً "كنت أعامل هناك كأنني مجرم"، ففي السجن أدمنت أنواعاً جديدة من المخدرات، وأنواعاً "لم أكن قد تعرفت إليها أو رآيتها في الشارع". وبدا (م) كأنه يعترض على دولة سجنته لتحميه من الشارع، لكن "أين الدولة لتحميني من الانحراف داخل السجن؟"، وأكمل: "لم نكن نعامل كبشر، فقدنا معنى الكرامة الإنسانية في السجن». عمر (م) اليوم 30عاماً، وقد تخلص من المخدرات بعد دخوله إلى مركز للتأهيل والعلاج،
رغم انه لا يمكن لأحد أن يجزم بصدق ما رواه لنا السجناء السابقين، إلا ان هنالك حقيقة ما، لا تزال منزوية في زوايا السجون المظلمة كحقيقة الظروف الانسانية الصعبة والقاهرة وافتقار السجون الى ابسط الشروط الصحية والطبية التي تجبره على التعاطي وإثبات الذات ولو بطريقة غير شرعية.

براءة خلف القضبان

لا يختلف إثنان على اعتبار ان الحدث هو ضحية الدولة وليس مجرماً، وعليها أن ترعاه ولا تربي فيه الحقد والنميمة، ولكن لا يوجد في المقابل أحد من المسؤولين على مرّ العهود والحكومات المتعاقبة يؤمن بذلك، ويعترف أن مكان الأحداث ليس سجن رومية، بل في مراكز متخصصة...!
كذلك لا يختلف إثنان على ضرورة إطلاع المواطنين على الاسباب الاساسية التي تعرّض الاطفال للخطر والتشرد و الانحراف، وعلى الواقع الاجتماعي الذي يهدّد مستقبل أجيال بأكملها. ولكن في المقابل لم يتجرأ أحد من المسؤولين على الاعتراف أمام اللبنانيين بتقصير السلطة في تقديم الدعم المالي لجمعيات الرعاية مع العلم أنها تهدف الى إفراغ السجون في الاصلاحية، وإفراغ الاصلاحية في المجتمع...!


صبرا والكسليك خلف أسوار رومية

تدخل مبنى الأحداث في سجن رومية حيث يعيش أطفال ومراهقون خلف أسوار من الحديد والاسمنت، حديد على النوافد، باب حديدي للغرفة، باب حديدي للجناح، نافذة المدخل مشبوكة بالحديد، باب الطبقة حديدي مقفل، الدرج المؤدي إلى السطح مسوّر بالحديد، السلالم كذلك. حديد أينما نظرت ومشيت.
يطلّ "جناح الكسليك" في قسم الأحداث على البحر، ليس مطلاًّ بالمعنى الصحيح للكلمة، لكن يلوح في الأفق، خلف مبنى المحكومين الكبار، طرف البحر. أما "جناح صبرا"، فنافذته ملاصقة لحائط اسمنتي شاهق بلون باهت، لا يسمح إلا برؤية السماء، جزئياً. هكذا، وفقاً للموقع الجغرافي، يستخدم نزلاء قسم الاحداث تعبيري "الكسليك وصبرا" لوصف جناحي الطبقة الثالثة من مبنى الأحداث، حيث يعيشون. فـ"جناح الكسليك" مخصّص لحديثي التوقيف، ولذوي السيرة الحسنة من المحكومين بفترات قصيرة. أما "جناح صبرا"، فيقطنه المحكومون بفترات طويلة، والموقوفون الذين يدخلون السجن للمرة الثانية أو أكثر. لا يتميز الجناحان بعضهما عن بعض سوى بساعتين إضافيتين تفتح فيهما أبواب الغرف والجناح، ففي صبرا، يبقى الباب الرئيسي مقفلاً طوال النهار، ولا يخرج السجناء إلا إلى المشاغل والمصانع أو مقابلات الزوار، بإذن من العسكري المناوب. وإقفال أبواب الغرف يتم عند الثالثة بعد الظهر. اما "جناح الكسليك"، فيبقى بابه الرئيسي مفتوحاً مع أبواب الغرف حتى الخامسة.في الكسليك 5 غرف وفي صبرا 7، مساحة كل منها تزيد على 24 متراً مربعاً، ويقطنها نحو 10 أشخاص، لكل منهم سرير خاص به. في كل غرفة "شاويش" من بينهم، تعيّنه إدارة السجن حسب أقدميته وحسن سلوكه، للسهر على تنفيذ التعليمات الصادرة عنها، وأولها النظافة. وفي هذا المجال، يقوم أحد السجناء كل يوم "بتزييح" الغرفة (حسب التعبير المستخدم بين النزلاء)، أي مسح أرضها بالماء ومواد التنظيف والتعقيم. تزود إدارة السجن النزلاء وجبتي طعام يومياً، لكن أكثرهم يتناولون طعاماً أحضره ذووهم. فـ"الأرَوَانة" (أي طعام السجن) "ما بتتاكل، وما في متل أكل البيت"، يقول أحدهم. وداخل كل غرفة حمّام بلا باب، فقد أبدلت الأبواب بستائر قماشية."شاويش الطابق" هو من المحكومين الكبار، وتعينه إدارة السجن، يساعد الإدارة في تطبيق النظام. لكن الكلمة العليا هي لحارس الطبقة من قوى الأمن الداخلي، والذي يطلق عليه السجناء لقب "باش شاويش". يملك هذا الأخير مفتاح جناحي الطبقة، وهو الذي يسمح للسجناء بالخروج من الجناح أو من الطبقة لمقابلة الزوار، أو للتوجه إلى المشاغل الموجودة في الطبقة الثانية من مبنى الأحداث. والمؤسف في هذا المبنى، أن الادارة تستعين بمحكومين دانهم القضاء لارتكابهم جرائم يعاقب عليها القانون، وذلك لمعاونتها في إدارة شؤون المحكومين، او لمساعدة من يدربون الأحداث في المشاغل والمصانع، مع العلم أن المادة الثانية من القانون رقم 422 الصادر عام 2002 (حماية الأحداث المخالفين أو المعرضين للخطر)، تمنع حجز الأحداث مع الراشدين، فكيف الحال بطلب المساعدة من أحد الراشدين المدانين، لتدريب الأحداث أو إدارة شؤونهم، بدلاً من مختصين ذوي خبرة؟

إصلاحيون بحاجة الى إصلاح

يتغير عدد السجناء الأحداث في رومية باستمرار (بين 100 و120) لأن السجن يضم محكومين وموقوفين، وحركة الدخول والخروج للفئة الأخيرة كثيفة جداً، إما بسبب الإفراج، أو بسبب تأكيد البراءة او لترحيل الأجانب منهم خارج البلاد، وإما لنقلهم إلى معهد الإصلاح.
يبدأ نهار السجناء الثامنة صباحاً حين يستيقظون. ينتقل بعدها الشباب إلى مشاغلهم ومصانعهم والصفوف، وذلك حسب جدول معدّ سلفاً، حتى الواحدة بعد الظهر تقريباً، حين يعودون إلى غرفهم، ويبقون فيها إلى اليوم التالي. تتبع المصانع لإدارة السجن، وهي تضم ميكانيك سيارات وحدادة وبويا وكهرباء سيارات و"البستان"، (خيمة بلاستيكية في زاوية إحدى الباحات تستخدم للأعمال الزراعية) كلها خارج مبنى الأحداث، بالاضافة إلى صف لتعليم تشغيل الكومبيوتر والتصميم في الطبقة الثانية من المبنى. وتؤمّن وزارة التربية الأساتذة والمدربين لهذه المصانع، كما أن وزارة العمل تمنح الاحداث شهادات بعد انتهائهم من الدورات التدريبية. وعلى نحو مواز لنشاطات إدارة السجن، ثمة مشاغل تشرف عليها "الحركة الاجتماعية" في الطبقة الثانية من مبنى الأحداث، وهي جمعية أهلية تدير برنامجاً لتأهيل الأحداث داخل السجن. يضم هذا البرنامج 4 مشاغل، تجميع الكومبيوتر وصيانته، وصناعة الحقائب الجلدية، وتطعيم الخشب، والحلاقة. ويضم أيضاً صفاً للرسم وآخر للمسرح، بالاضافة إلى التدريب الاجتماعي، والمتابعة النفسية للمسجونين. تدفع الحركة الاجتماعية أجور الأساتذة في المشاغل التي يساعدهم فيها محكومون كبار.
أما المكتبة فلها مكانة خاصة كونها تقتل الفراغ لدى الحدث وتنمي الانضباط لديه حيث يمضي وقته بعيداً عن الضجة. وتحتوي المكتبة على كتب باللغات العربية والفرنسية والانكليزية لكافة المستويات المدرسية، ونجد ألعاباً تثقيفية وأماكن مخصصة للقراءة واللعب. والباحة الخارجية مخصصة للنزهات وللألعاب الرياضية الالزامية لجميع الأحداث على حد سواء.
ورغم أن سجن الأحداث يعدّ أفضل من السجون الأخرى لناحية المساحة وأماكن نوم السجناء وبرامج التدريب، إلا أن هدف التدابير المتخذة بحق الأحداث هو الحماية والاصلاح بحسب ما ينص عليه القانون 422، وهو ما لا يبدو جلياً في سجن الاحداث في رومية، لأنه يبقى سجناً يشبه إلى حد بعيد السجون الأخرى في لبنان.

الفتى الذي أوى إلى سجن رومية


أراد سامي أن يتخلص من منزله حيث كان والده يربطه بالجنازير ويضربه مع أشقائه ويتحرش بابنته البكر، فارتأى أن الوسيلة الفضلى للابتعاد عن واقعه المرير هي السرقة وتسليم نفسه للدرك "وهيك بخلص من الحياة القاسية يللي كنت عم عيشها"
"من أول ما وعيت كنت شوف أمي وبيّي عم يتخانقوا"، فوالده كان يمضي نهاره في شرب الكحول والجلوس في المنزل، إذ هو لا يعمل معظم الأوقات، فيما أم سامي كانت تعمل في خدمة المنازل كي تتمكّن من إطعام أولادها. يقول سامي بصوت تملؤه غصّة: "كتير أيام أنا واخواتي بنّام جوعانين لأنو ما كان في شيء ناكلوا. واذا انوجد شي، كان الفول المطبوخ"، لان والده كان يطبخ الفول أحياناً ليبيعه.
يتابع سامي: "أكل الفول أمرضني وإخوتي، فكنّا ندخل الى مستشفيات تعيسة، حسب مقدرتنا المالية، وقال أطباء إننا مصابون بالتلاسيميا وآخرون قالوا سرطان الدم".يبلغ سامي حالياً 18 سنة، وهو لا يذكر من طفولته غير كوابيس مؤلمة رسمت في عقله قساوة الحياة وحرمته هناء الطفولة والذي أوصت به المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الطفل. وهو لا يعي منذ نضجه غير صورة الحي الضيق الذي كان يقطنه في صيدا، حيث تكوّن المياه الآسنة مَعلماً بارزاً ودائماً. وعاش طفولته متنقلاً من منزل بائس إلى آخر أشد بؤساً.الهرب إلى... السجنوالد سامي أرغمه لدى بلوغه العاشرة على ترك المدرسة كي يعمل للقيام بأعباء مسؤولية أشقائه، فعمل في بعض الورش من 7:00 صباحاً حتى 7:00 مساءً، ثم انتقل الى جمع الخردة والألمنيوم من مكبات النفايات لأنها مربحة أكثر. واقع مرير دفع سامي للهرب من المنزل والنوم على حافة الطريق وداخل هياكل السيارات المتكسرة، حيث تعرف إلى مجموعة من الفتية علموه التدخين وشرب الكحول وشم مادة التينر، إضافة الى تعاطي الحبوب المخدرة والسرقة حتى أوقفته القوى الأمنية ليصدر الحكم الأول بإدخاله معهد الإصلاح "حيث يجري تلقينه الدروس وتدريبه على المهن والإشراف على شؤونه الصحية والنفسية والاخلاقية" كما نصت المادة 13 من قانون حماية الاحداث المخالفين للقانون او المعرضين للخطر الصادر في حزيران 2002. علماً أن واقع الاصلاحية ليس مطابقاً لما ينص عليه القانون، فعدد الاساتذة لا يكفي ومصانع التدريب مقفلة نتيجة انعدام التمويل الرسمي، وهذا ما انعكس ايضاً على عدد الأحداث المقيمين في الاصلاحية ليبلغ 20 فرداً في حين ان المعهد معدّ ليتسع لـ 80 فرداً. هرب سامي من الاصلاحية ليعود الى حضن الشارع، لكن سرعان ما أوقفته القوى الأمنية وأودعته هذه المرة قسم الاحداث في سجن رومية لإنهاء محكوميته، حيث تعمل جمعيات غير حكومية على تأهيل المراهق نفسياً وتربوياً واجتماعياً. وبعد مضي فترة حكمه، خرج سامي الى الحرية، وعاد الى واقع عائلته ليستعيد ايقاع حياته الأليم، لذلك رأى أن أفضل ما يخلّصه من الحياة التي يعيشها هو أن " أسرق وأسلّم نفسي للدرك" وهذا ما حصل فأودع سجن الأحداث في رومية.
كلام سامي جاء في نبذة عن حياته قبل السجن وبعده أنتجتها مؤسسة الرعاية الاجتماعية التي تابعت حالته عن كثب. ولدى محاولتي البحث عن مكان سامي، علمت أنه ما زال موضوعاً في رومية .
ومع عودة سامي الى السجن، أسئلة عديدة تطرح حول فاعلية نظام الاصلاح، فرغم عمل جمعيات الرعاية على الصعيد النفسي للاحداث وعلى مشروع حياتهم الجديد في سبيل دمجهم بالمجتمع، فإن صعوبات تبقى قائمة في ظل غياب أشخاص أساسيين (المتخصصون) في فريق عمل الجمعيات، مما يجعل العمل الفردي مع كل حدث على حدة صعب. ومن العوائق الرئيسية كذلك، عدم وجود إمكانات لمتابعة الحدث خارج السجن على نحوٍ كافٍ، مما يشجّع الاحداث على معاودة مخالفاتهم للقانون.

سجوننا إن حكت قد تبكي الحجر



أغرب ما في عالمنا العربي، أننا دائماً نعترض على مشاكلنا التي يتسبب بها الاخرون ونسكت عن المشاكل التي نتسبب بها نحن، مع أن الاخيرة أولى بإهتمامنا لأن حلها بأيدينا.
وهكذا في السجون لطالما تحدثنا عن معاناة المساجين في غوانتنامو، وعن الاسرى في السجون السورية وسجون الاحتلال الاسرائيلي، أما سجوننا فلا نعلم ماذا يوجد في داخلها، ومساجيننا وسجانونا لا نعلم عنهم شيئاً. فالمعرفة في عالمنا العربي محرمة في كل ما يضرّ بالسلطات والاعتراض عليها "خط أحمر" و"جلب مشاكل عالفاضي، أصلاً مشاكلنا بتكفينا" ....
وقد ينظر البعض الى ما سأطرحه في الموضوع على أنه رفاهية زائدة لا حاجة للمساجين لها، لكنها ضمن أبسط الحقوق. عندنا لا تعذيب مقارنة بمصر مثلاً ولا إهانات كإهانات غوانتنامو ... لكن سجوننا إن حكت ففيها الكثير. فالسجن ليس "مقبرة" للبشر، لكنه مدرسة، يفترض أن يخرج المجرم منها إنسانا مسؤولاً نادماً، لا العكس، يخرج البريء منها أو المذنب بأحكام بسيطة مجرماً كبيراً متمرساً ومؤسساً لعلاقات "عمل" تضمن له مستقبلاً آمناً، لأننا وللأسف، في بلدنا، السجن نقطة سوداء في السجل العدلي تحرّم على صاحبها إيجاد عمل أو وظيفة إلى الأبد.
مشاكل السجونتعاني السجون اللبنانية الـ32 والمتوزعة على مختلف المحافظات، مشكلة الاكتظاظ الخانق، فالمبنى الذي يتسع ل300 يسجن فيه 800، والغرفة الـمعدة لثلاثة، يحتجز فيها عشرة، الطعام رديء والبرد قارس، والمنشآت بحاجة لصيانة. خليط غريب عجيب، أحداث وكبار، مجرمين وقتلة، ولصوص، ومتسللين وبريئين. البعض أسماؤهم موجودة والبعض حتى لا تذكر أسماؤهم في اللوائح. أما المشكلة الثانية فتتعلّق بطريقة توزيع السجناء على الزنازين والأقسام فلا توجد منهجية علمية دقيقة لذلك، ما يؤدي الى مشاركة أشخاص ارتكبوا جرائم مختلفة ومتنوعة الزنزانة عينها أو الطابق عينه، ما يسمح بتأسيس شبكات وعصابات ويجعل بعض المتخصصين في جرائم معيّنة يعلّمون السجناء الآخرين طرقاً متطوّرة لارتكاب الجرائم، ويدلّونهم على الحيل والأهداف السهلة وسبل الإفلات من الشرطة. والمشكلة الثالثة تتعلّق بعدم تجهيز حراس السجون والمسؤولين عن إدارتها وتدريبهم مهنياً على التعامل مع السجناء. فيعتمد حراس السجن على «الشاويش» أي السجين المحكوم الذي " تثق به" إدارة السجن لفرض النظام والحفاظ على الأمن خلف القضبان. والمشكلة الرابعة تتعلّق بغياب برامج الإصلاح والتدريب المهني والمصانع وحتى العلاج من الإدمان على المخدرات والكحول والميسر، وغير ذلك من المشاكل.
ما الذي يحدث في سجن رومية؟!!
فمثلاً سجن رومية، وهو أكبر وأشهر السجون اللبنانية، والمعد لـ1550 سجين، يضم حوالي 4000 سجين، وهي نسبة اكتظاظ تقارب الـ400 %. للأسف فإن جزء كبير من هؤلاء السجناء أيضاً من الموقوفين الذين لم تتم محاكمتهم بعد، كما أن نسبة تقارب النصف هي ممن دخلوا البلاد خلسة بهدف العمل (جنسيات مختلفة، سريلانكية، عراقية، مصرية، سورية، ..). روائح العفن والرطوبة، التدخين، "الويل لغير المدخنين"، الفرش الصغيرة المفردة والمتكدسة فـ "لا مكان للنوم الا عبر التسييف (أي النوم على الجنب وكعب وراس)" .
وفي شهادات سجناء سابقين عايشوا الوضع المتفاقم والمؤلم في رومية، اختزل عباس السجن بـ "الرشوة، السلطة والقوة، حيث يتمتع أصحاب المال والسلطة بالكثير الكثير من الامتيازات، وخصوصاً تجار المخدرات الذين يختارون بأنفسهم الزنزانة وعدد الأشخاص الذين سيتقاسمونها معهم.. فقط لخدمته". وكان عباس يحزن عندما يرى سجناء يخرجون من زنازينهم ويتنقلون بحرية ويتوجهون إلى النزهة ساعة يشاؤون، ويمضون أوقاتاً مع عائلاتهم، وعندما اعترض يوماً كان الجواب "إدفع ما يدفعونه وتحصل على ما تريد".ويتساءل محمد "مَن قال ان السجين لا يحتاج للمال، فأهلي دفعوا لي طوال العشر سنوات،66 مليون ليرة"، فنحن نقوم بتأهيل الزنزانة على نفقتنا، وكل ما نأتي به من تلفزيون وبراد ومروحة يصبح مباشرة ملكاً للدولة". ويتابع محمد "أما بالنسبة للطعام فنضطر الى لرشوة شاويش المطبخ بكروز دخان اسبوعياً للحصول على نوعية جيدة".
أما جورج وصف "السنوات الثلاث التي أمضاها في السجن بـ"درب الجلجلة"، متمنياً لو يدركه الموت، ويعتبر ان الحياة في السجن هو وجه آخر للحياة في العالم الخارجي "حيث القوي يأكل الضعيف"، ما اضطر أهله للاستدانة ليعيش بكرامة بداخله. يدرك جورج انه كان يقيم في سجن وليس في فندق لكنه يستغرب عدم تأمين الحد الأدنى ليعيش السجين باحترام، ويعتب على "السجانين" الذين لم يحبهم يوماً وهم الذين اعتادوا معاملة السجين كشخص "رخيص" من خلال أحكام مسبقة بحقهم. ويهزأ من اعتبار السجن عقوبة إصلاحية، فهو يعجّ بالعصابات التي تخترع السلاح الأبيض للانتقام من بعضها البعض، وما أن يخرج أحد أفرادها حتى يعود لارتكابه جرماً آخر."

" دخلتُ السجن مذنبة فأخرجني منه تائبة"
في لبنان أربع سجون للنساء هم بعبدا , فردان , زحلة و طرابلس، وهذه السجون تزيد سوءا عن سجون الرجال و هي لا تحوي الحد الادنى من المقومات التي وضعتها الامم المتحدة. ففي سجن بعبدا، المساحة الفردية للسجينة لا تتعدى المتر مربع، كما ان العدد المزدحم للسجينات في الغرفة الواحدة يحدّ من خصوصية السجينة فكيف اذا كانت تلك الاخيرة قاصراً وفي طور النّمو. أما بالنسبة لوسائل الراحة، فكل 3 سجينات يحصلن على فرشتين للنوم وغياب الحواجز داخل الحمامات يعرض السجينة الحدث لحالات المثلية الجنسية واستغلالها في شبكات الدعارة و الممنوعات فور خروجها. إن المجتمع اللبناني لا يعير أي اهتمام للفتاة الجانية، ويعود السبب الاساسي الى الفكر الشرقي الذكوري الذي لا يزال يتحكم بعقولنا، ويقضي بالتستّر على الفتاة و المرأة بشكل عام. و لكن كما اعتدنا في لبنان، إن العمل العلني في موضوع السجينات يشكل مهانة لمجتمع متخلف، بعيد كل البعد عن الانسانية والعدالة. فالقضاء يرسل الفتيات المتراوحة أعمارهم بين الـ 12 و الـ 15 سنة الى دير الراعي الصالح في السهيلة. أما اللواتي بلغن سن الـ 15 وارتكبن جنحة كبيرة فيرسلن الى سجون النساء دون أي مشروع إصلاح أو متابعة.
أما نجوى، ففي سجن بعبدا حيث كانت، لا يميزن الليل من النهار لعدم وجود نوافذ ما حرمهن نعمة الشمس، و"زاد الطين بلّة اتخاذ إدارة السجن قراراً بإبقاء الأنوار مضاءة ليلاً نهاراً بعدما سرت شائعات عن قيام سجينتين بأفعال منافية للحشمة"، ونتيجة لذلك أصيبت نجوى بغشاوة على عينيها، وبسبب الرطوبة التي تنتشر في السجن، تعمد الإدارة بالتنسيق مع سجون أخرى إلى اعتماد مبدأ المداورة ونقل بعض السجينات إلى سجون تتميز بأماكن للنزهة. وتحدثت أيضاً عن رداءة الأكل والذي لا يتناوله إلا القليل من السجينات وهن الفقيرات، فيما الأخريات يحصلن عليه من الخارج وعلى نفقتهن. كما أن المعاناة تبرز أكثر في شهر رمضان، فمواعيد توزيع الطعام لا تتعدى المرة الواحدة يومياً.وتتابع:" طيلة فترة الحكم الصادر بحقي، كنت أخاطب خالقي الاعظم بجملة، "ربي دخلت السجن مذنبة فأخرجني منه تائبة" في النهاية يتّفق الجميع، أبرياء ومذنبين، ومراقبين ومسؤولين، على أن وضع السجون في لبنان غير مرضٍ، من رداءة الطعام إلى غياب المنشآت الترفيهية والصحية، إلى عدم المحاكمة، وإلى التوقيف حتى بعد انتهاء المدة بسبب تراكم الغرامات، وتضارب الصلاحيات بين وزارتي العدل والداخلية حول الاشراف على أوضاع السجون. بلسان حال المسجونين اليوم، دخلت السجن مذنباً أم تائباً لا يهم، ربي أخرجني منه، على الاقل، إن لم يكن تائباً يا رب ... لا تخرجني مجرماً أكبر ....